ترجمة معاذ أبو معطي.
لا زال استعمال الولايات المتحدة للسلاح النووي على اليابان أثناء الحرب العالمية الثانية محل نزاع، ابتدأ باستنكار البعض قرار الرئيس ترومان بإسقاط قنبلتين نوويتين على هيروشيما وناغاساكي. إلا أن عالم التاريخ غار ألبروفتز زعم في مكتوب له عام ١٩٦٥ أن قادة اليابان كانوا ينوون الاستسلام قبل الغزو الأمريكي في الأول من نوفمبر بالقنبلتين أو بدونهما، ولو أن إسقاطهما وضع نهاية للحرب. وبهذا فاستعمالهما لم يكن ضروريًا، وعليه فإن قصف هيروشيما وناغاساكي إذن كان خطأً بيّنًا. ومنذ تلك اللحظة خلال ٤٨ عامًا دخل في النزاع خلقٌ كثير: بعضهم مع ألبروفتز في إنكار القنبلتين وآخرون يدافعون بحماسة عن أخلاقية وضرورية رميهما حافظًا للأنفس.
كلتا المدرستين افترضت تسليمًا أن قصف هيروشيما وناغاساكي بأسلحة جديدة وأعتى من سابقاتها أجبر اليابان على الاستسلام يوم ٩ أغسطس، وغاب عن الأذهان التحقق من جدوى القصف في المقام الأول؛ ليسألوا أنفسهم هل أفلح أصلًا؟ الرأي المُتّبع هو نعم قد أفلح، الولايات المتحدة قصفت هيروشيما في السادس من أغسطس فناغاساكي في التاسع، وحينها رضخ اليابانيون أخيرًا من التهديد بقصف ثالث واستسلموا. واتباع هذا السرد متجذر، إلا أن فيه مشكلات ثلاث تقوّض في مجملها التفسير المعهود لاستسلام اليابان أيما تقويض.
التوقيت
أولى مشكلات هذا التفسير هو التوقيت، وهي مشكلة حقيقية؛ فهو يقول بتسلسل زمني واضح: قصفت القوة الجوية الأمريكية هيروشيما بنووي في السادس من أغسطس، وبعد ٣ أيام قصفت ناغاساكي بآخر، وفي اليوم التالي أبدي اليابانيون نيتهم بالاستسلام. يصعب على المرء لوم الصحف الأمريكية في خط عناوين مثل “سلامٌ في المحيط الهادئ: صنيع قنبلتنا”!
حين تُسرد قصة هيروشيما في أكثر مؤلفات التاريخ الأمريكية، يكون يوم القصف -٦ أغسطس- هو ذروة الرواية؛ كل عناصر الرواية تحيل إلى تلك اللحظة: قرار صنع القنبلة، البحث السري في لوس ألاموس، الاختبار الأول المدهش، والأوج الأخير في هيروشيما؛ أي أنها تُحكى حتى بكونها قصة عن القنبلة. ولكن يستحيل تحليل قرار استسلام اليابان بحياد في سياق قصة القنبلة، صياغتها بأنها قصة القنبلة يفترض تسليمًا أن أثر القنبلة أساسٌ في المسألة.
أهم يوم عند اليابانيين في الأسبوع الثاني من أغسطس ذاك العام لم يكن السادس من الشهر بل التاسع، وهو اليوم الذي اجتمع فيه المجلس الأعلى -لأول مرة في الحرب- لمناقشة استسلامٍ غير مشروط، وكان المجلس يتكون من ستة أعضاء في الحكومة -نوع من المجالس الفرعية في الداخل- لهم شديد الأثر في حكم اليابان عام ١٩٤٥. لم يعط قادة اليابان موضوع الاستسلام اهتمامًا قبل هذا اليوم، وكان الاستسلام غير المشروط (ما يطلبه الحلفاء) أمَرُّ عليهم، فالولايات المتحدة وبريطانيا العظمى تعقد المحاكمات حينها على جرائم الحرب في أوربا. هب أن الإمبراطور -وهو مقدس عند شعبه- يُحاكم علنًا؟ أو أنهم يزيلون الإمبراطور ويغيرون نظام الحكم؟ فحتى مع تردي الأحوال في أغسطس عام ١٩٤٥ لم يخطر لقادة اليابان الاستسلام عن عاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم، حتى اليوم التاسع. فما عساه أن يغيّر رأيهم فجأةً وقطعًا؟ ما الذي أجلسهم لمناقشة الاستسلام مناقشةً جادة في أول مرة خلال ١٤ عامًا من الحرب؟
ما كان قصف ناغاساكي سببًا لهذه النتيجة، فقصفها حدث في صباح التاسع من أغسطس بعد بدء اجتماع المجلس الأعلى لمناقشة الاستسلام، وخبر القصف وصل لقادة اليابان أول ظهيرة ذاك اليوم؛ استُدعي المجلس كله لاستئناف الاجتماع عقب توقف الاجتماع وتأجيله، فعلى عامل الوقت فقط لا يمكن أن تكون ناغاساكي الدافع إلى الاستسلام.
حتى قصف هيروشيما مستبعد، فقد حدث قبل ٧٤ ساعة -يزيد عن ثلاثة أيام- من الاجتماع؛ ما هذه الأزمة التي تأخذ ثلاثة أيام للوقوف عليها؟ فعلامة الأزمات هو الشعور بوَشك نزول نازلة والحاجة الشديدة إلى التصرّف حالًا، فهل يُعقل أن قادة اليابان أحسّوا أن ما وقع على هيروشيما أزمة ومع ذلك لم يجتمعوا للوقوف عليها إلا بعد ثلاثة أيام؟
كان الرئيس جون كينيدي جالسًا على فراشه في السادس عشر من أكتوبر عام ١٩٦٢ يقرأ صحف الصباح حينما دخل عليه مستشاره للأمن القومي مكجورج بندي الساعة ٨:٤٥ صباحًا يخبره أن الإتحاد السوفييتي وضع في كوبا صواريخ نووية، وفي غضون ساعتين وخمس وأربعين دقيقة؛ أُنشئت لجنة وعُيّن أعضاؤها واتُّصل بهم وجيء بهم إلى البيت الأبيض وكانوا جلوسًا حول طاولة المجلس يناقشون ما هم فاعلون.
وكان الرئيس هنري ترومَن مصيّفًا في إندبندنس بميزوري يوم ٢٥ يونيو عام ١٩٥٠ حين أرسلت كوريا الشمالية جيوشها بعد خط العرض ٣٨ [الخط الفاصل بين الكوريتين] لغزو كوريا الجنوبية، فأخبره بهذا وزير الخارجية آنذاك أتشيسون. وفي غضون ٢٤ ساعة طار ترومان إلى النصف الآخر من الولايات المتحدة ليجلس في منزل بلير (كان البيت الأبيض قيد الترميم) مع نخبة الجيش والمستشارين السياسيين ليناقشوا ما عليهم فعله.
حتى الجنرال جورج برنتن مكلالن – قائد فصيل البوتوماك في جيش الإتحاد إبان الحرب الأهلية الأمريكية عام ١٨٦٣، وقال عنه الرئيس لنكولن بأسى “إنه مصاب بداء البطء”- لم يُضِع سوى ١٢ ساعة حينما أُعطي نسخة من أمر الجنرال روبرت لي بغزو ميريلاند.
مايكل فيراري، براغ خنّا
استجاب القادة -مثل قادة أي دولة- لنداء الأزمة المُلزم، كلٌ منهم حسم أمره بما يلزم في وقت قصير. كيف لنا إنزال هذا السلوك على أفعال قادة اليابان؟ إن كان ما وقع على هيروشيما منذرٌ بأزمة أجبرت اليابانيين على الاستسلام بعد صراع دام ١٤ سنة فلماذا أخذ منهم ثلاثة أيام ليتشاورا فيما بينهم؟
قد يقول قائل أن التأخُّر معقول، ربما استوعبوا أثر القصف رويدا، ربما لم يعلموا أنها قنبلة نووية ولمّا انتبهوا أدركوا الأثر المروّع لسلاح مثله فكان انتهاؤهم إلى الاستسلام أمرًا مقضيًا، وهذا التفسير لا يوافق الوقائع.
أبلغ حاكمُ هيروشيما أوّل الأمر الحكومةَ في اليوم عينه خبر قصف هيروشيما وأن ثلث السكان هلكوا به وثلثي المدينة تدمّر، ولم يتغيّر هذا الخبر في تالي الأيام. فالنتيجة إذن -النتيجة النهائية للقصف- اتضحت منذ البداية، علِم قادة اليابان نتيجة الهجوم من أول يوم ومع هذا لم يحرّكوا ساكنًا.
ثانيًا أن التقرير الأولي من فريق التحقيق في الجيش بشأن قصف هيروشيما وفيه تفاصيل ما حدث لم يسلَّم إلا في ١٠ أغسطس، أي أنه لم يصل إلى طوكيو إلا بعد قرار الاستسلام. وصحيح أن التقرير وصلهم نقلًا باللسان (أي الجيش) يوم ٨ أغسطس لكن تفصيله لم يأتهم إلا بعد يومين منه، وعليه فإن الاستسلام لم يُقَرّ بسبب ما أصاب هيروشيما من أهوال.
ثالثًا أن الجيش الياباني يعرف -وإن بالقوة- ما تعنيه الأسلحة النووية، فاليابان عندها برنامج للسلاح النووي؛ وقد أخبر عدد من العسكر الياباني في مذكراتهم أن ما دمّر هيروشيما كان سلاحًا نوويًا، وحتى وزير الحرب في اليابان الجنرال أنامي كورتشكا ذهب ليشاور رئيس برنامج اليابان النووي ليلة السابع من أغسطس. لهذا فاحتمال عدم معرفة قادة اليابان عن السلاح النووي لا يستقيم.
وأنتهي إلى حقيقة مشكلِة أيما إشكال في مسألة التوقيت، فقد ذهب وزير الخارجية توغو شيغينوري في الثامن من أغسطس وطلب من رئيس الوزراء سوزوكي كَنتارو أن يرى في مناقشة المجلس الأعلى قصف هيروشيما لكنهم رفضوا؛ وعليه فإن الأزمة لم تكبر شيئا فشيئًا حتى انكشفت في التاسع من أغسطس. وأي تفسير لأفعال قادة اليابان يعتمد على “هولهم” جراء قصف هيروشيما عليه أخذ نظرهم في اجتماع اليوم الثامن ومن ثم ردّه لعدم أهميته بالحسبان، وبعدها فجأة بيوم واحد اجتمعوا للتشاور في الاستسلام. فإما أنهم أصيبوا جميعًا بداء الفصام أو أن حدثًا آخر كان دافع مناقشتهم الاستسلام.
القياس
قد يبدو تاريخيا أن استخدام القنبلة أهم حدث متفرّد في الحرب، إلا أن فصل القنبلة من منظور اليابان المعاصر عن أحداث أخرى ليس بهذه السهولة؛ فبعد كل شيء يصعب أن تميّز قطرة من المطر داخل الإعصار.
شنت القوات الجوية الأمريكية صيف عام ١٩٤٥ إحدى أعنف حملات تدمير المدن في التاريخ، هوجمت ثمانٌ وستون مدينة جميعها دُمّرت إما في أجزاء أو عن بكرة أبيها. ما تقديره ١.٧ مليون إنسانًا شُرّدوا، ٣٠٠٠٠٠ قُتلوا، ٧٥٠٠٠٠ أُصيبوا، وست وستون من هذه الغارات قَصفت قنابل عادية واثنتان قصفت النووي. والدمار الذي حل من القصف العادي كان عظيمًا، ليلة تليها الليلة طوال الصيف والمدن يلتهمها اللهب. وفي خضم حملة التدمير هذه، لن يُستغرب إخفاق هجوم واحد في ترك عظيم الأثر؛ وإن كان يحمل نوعًا جديدًا عجيبًا من الأسلحة.
تحتمل قاذفة القنابل B-29 وهي آتية من جزر ماريانا -حسب موقع الهدف وارتفاع موضع القصف- ما بين ٧ إلى ٩ آلاف كيلو من المتفجرات، والغارة العادية تضم ٥٠٠ قاذفة؛ وهذا يعني أن الغارة العادية تُسقط من ٤ إلى ٥ كيلوطن في كل مدينة (يساوي الكيلوطن الواحد ١٠٠٠ طن وهو ما تُقاس به قوة المتفجرات في السلاح النووي، قوة قنبلة هيروشيما هي ١٦.٥ كيلوطن وناغاساكي ٢٠ كيلوطن). وبهذا جرى تدمير القنابل للمدن بالقدر ذاته (وهو أعظم في الأثر)، بينما تضيع معظم قوة قنبلة وحيدة أقوى من الأخريات داخل الانفجار -وكأنهم يطعنون ميتًا-، وقد يُزعم أن بعض غارات القصف العادية كانت أشد تدميرًا من القنبلتين النوويتين.
أولى الغارات العادية وقعت في طوكيو يومي ٩ و١٠ مارس عام ١٩٤٥، ولا زالت أعظم الهجمات دمارًا على مدينةٍ في تاريخ الحرب. ما يقارب مساحته ٢٦ كيلومترًا مكعبًا من المدينة أضحى هشيمًا، ما تقديره ١٢٠٠٠٠ ياباني هلكوا؛ في أعلى عدد قتلًى لأي قنبلة على مدينة واحدة.
يُخيّل لنا أحيانًا بأسلوب سرد القصة أن قصف هيروشيما كان أشنع بكثير، وأن عدد القتلى لا يحصى؛ وأنت إن عرضت عدد القتلى في كلٍ من المدن الثماني والستين المقصوفة صيف عام ١٩٤٥ وجدت هيروشيما الثانية في القتلى المدنيين، وإن عرضتها لترى الدمار في المساحة تجد هيروشيما الرابعة، ومن حيث نسبة الدمار في المدينة فهي السابعة عشر؛ آثار هيروشيما كانت تتساوى بلا شك مع غيرها من الغارات العادية.
وقصف هيروشيما فريد غير عادي من منظورنا، لكنك إن وضعت نفسك مكان قادة اليابان في الأسابيع الثلاثة حتى هيروشيما اختلفت الصورة، وإن كنتَ أحد المهمين في حكومة اليابان نهاية يوليو وبداية أغسطس فتمر عليك مسألة قصف المدن هكذا: تصبح يوم ١٧ يوليو على أخبار قصف ٤ مدن هي أويتا وهيراتسوكا ونومازو وكوانا؛ أولاهما دُمّر أكثر من ٥٠٪ منهما، وكوانا ما يزيد عن ٧٥٪، أما نومازو وهي الأشد بينهم سوّيَ بالأرض ٩٠٪ منها تقريبًا.
ثم تصحو بعدها بثلاثة أيام لتجد ثلاثٍ أخرى قُصفت، منها فوكوي بنسبة ٨٠٪ من الدمار. يمضي أسبوع فتُقصف ثلاثٌ أخر ليلًا، يمر يومان فتضاف ستٌ إلى الغلة في ليلة واحدة بما فيها إتشنوميا بنسبة ٧٥٪ من الدمار. وتصل مكتبك في الثاني من أغسطس لتُخبَر بقصف أربع مدن أخرى، وأن توياما (مساحتها قريبة من تشاتانوغا في تينيسي عام ١٩٤٥) دُمرت بنسبة ٩٩.٥٪، أي أن المدينة بأكملها دُكت. أربعة أيام تمر وأربع مدن أخرى تُقصف، وفي يوم ٦ أغسطس تُقصف هيروشيما وحدها، مع الأخبار بأن الأثر عظيم وأن نوعًا جديدًا من القنابل اُستخدم. فكيف يعظُم في عينك هذا القصف الوحيد بعد ما اعتدت دمار المدن لأسابيع؟
٢٦ مدينة قُصفت من القوات الجوية الأمريكية في ثلاثة أسابيع حتى يوم قصف هيروشيما، ثمانٌ منها -الثلث تقريبًا- دُمرت كلها أو حل بها أعظم مما حل بهيروشيما (بحساب نسبة دمار المدينة)، وواقع دمار ٦٨ مدينة في صيف ١٩٤٥ يُشكِل على من يدّعي أن قصف هيروشيما هو سبب قرار الاستسلام. فالسؤال هو: إن كان استسلامهم لدمار مدينة، ما منعهم من الاستسلام حين دمرت ٦٦ مدينة غيرها؟
ولو أن قادة اليابان استسلموا بسبب ما وقع على هيروشيما وناغاساكي لظُنَّ أنهم اهتموا بقصف المدن في العموم، وأن الهجوم على المدن يضغط عليهم ويدفعهم إلى الاستسلام؛ وهذا مخالف لواقع الحال. فعقب قصف طوكيو بيومين عبّر وزير الخارجية المتقاعد شيديهارا كيجورو عن تعاطفه الذي حلّ على جملة من كبار الضباط على ما يبدو آنذاك، واستهل بقوله: “سيعتاد الناس مع الوقت على قصف المدن كل يوم، والتآزر والعزم يقوى في حينه”. وقال في رسالة إلى صديقه أن على المواطنين تحمّل المعاناة “فحتى وإن مات مئات الألوف من العُزّل أو أُصيبوا وجاعوا، وإن دُمرت أو احترقت ملايين المباني”، أحتيج الوقت للدبلوماسية، واعلموا أن شيديهارا هذا كان معتدلًا.
كان السلوك في أعلى مستويات الحكومة -في المجلس الأعلى- متفقًا، ومع أن المجلس الأعلى ناقش أهمية بقاء الاتحاد السوفييتي محايدًا إلا أنه لم يحدث نقاش كامل عن مسألة القصف. ولم تذكر هذه المسألة حسب التسجيلات المحفوظة إلا مرتين في اجتماعات المجلس الأعلى: مرة على عجل في مايو عام ١٩٤٥، والأخرى ضمن النقاش الواسع يوم ٩ أغسطس. وعلى ما ذُكر، يشقُّ إقامة حُجة إيلاء قادة اليابان قصف المدن -مقارنة بهموم الحرب الأخرى الجارية- شيئًا من الأهمية.
أوضح الجنرال أنامي يوم ١٣ أغسطس أن القصف النووي لم يكن أشنع من القصف الناري الذي تعرضت له المدن شهورًا، فإن لم يكن النووي أفظع من القصف الناري ولم ير قادة اليابان أهمية تكفي لمناقشته مناقشة جادة فهل يستقيم القول أن هيروشيما وناغاساكي أجبرتهم على الاستسلام؟
الأهمية الاستراتيجية
إن لم تكن اليابان مهتمة بقصف المدن عموما والقنبلتين النوويتين خصوصا فإلى أين الاهتمام ذاهب؟ الجواب سهل: الاتحاد السوفييتي.
كانت اليابان في موضع استراتيجي صعب على ظروفها في الحرب، فقد كانوا على شفا خلاص حرب يخسرونها، والأحوال في سوء، لكن الجيش لم يزل صامدًا ثابتًا؛ قرابة ٤ ملايين رجلًا بأسلحتهم منهم ١.٢ مليونًا يحرسون جزر اليابان.
حتى أشد قادة حكومة اليابان حماسة للحرب علموا أن الحرب مستحيل استمرارها، لم يكن السؤال عن الاستمرار بل عن إنهاء الحرب بأفضل نتيجة ممكنة، وكان الحلفاء (الولايات المتحدة، بريطانيا العظمى، وغيرهم – تذكر أن الاتحاد السوفييتي كان محايدًا حينها) يطالبون باستسلام غير مشروط. وأمل قادة اليابان في أن يجدوا طريقًا يحول دون محاكمات جرائم الحرب، وأن يحافظوا على نظام الحكم، وأن يُبقوا على بعض المناطق التي احتلوها: كوريا وفيتنام وبورما وأجزاء من إندونيسيا وماليزيا وجزء ضخم من الصين وجزر كثيرة في المحيط الهادئ.
وكان عندهم طريقتين لكسب شروط استسلام أصلح، أي خياران استراتيجيان؛ أولهما هو الخيار الدبلوماسي: وقعت اليابان اتفاقية حياد مع الاتحاد السوفييتي لمدة خمس سنوات في شهر أبريل عام ١٩٤١ تنتهي في عام ١٩٤٦، فطمع فريق معظمهم من القادة المدنيين يقودهم وزير الخارجية توغو شيغينوري في موافقة ستالين التوسط لتسوية بين الولايات المتحدة والحلفاء من جهة، وبينها واليابان من جهة أخرى. وكانت بعيدة المنال إلا أنها معقولة استراتيجيا، لأن في نتيجتها مصلحة للاتحاد السوفييتي في ألّا تكون الشروط راجحة لكفة الولايات المتحدة، فأي زيادة لنفوذ وسلطة الولايات المتحدة في آسيا نقصان لنفوذ وسلطة الاتحاد السوفييتيي فيها.
الخيار الآخر هو العسكري، وأغلب مؤيديه هم عسكر ورأسهم وزير الجيش أنامي كورتشيكا. كانوا يسعون باستعمال الجيش الامبراطوري للمشاة في إصابة أضرار جسيمة على قوات الولايات المتحدة إبان غزوهم، وشعروا أنهم لو انتصروا قد تضطر الولايات المتحدة إلى عرض شروط أحسن. وحتى هذا الخيار صعب المنال، فالولايات المتحدة متشبثة باستسلام اليابان غير المشروط، إلا أن انتشار مسألة حرمة تكبد خسائر في أوساط الجيش الأمريكي عند الغزو تُبيّنُ أن الاستراتيجية ليست مستحيلة.
القياس السليم لمعرفة إن كان دافع الاستسلام هو قصف هيروشيما أو إعلان الحرب فالغزو من الاتحاد السوفييتي يتحقق بمقارنة تأثير كل منهما على الوضع الاستراتيجي، فبعد قصف هيروشيما يوم ٦ أغسطس كان كلا الخيارين باقٍ، يمكن طلب واسطة ستالين (وتكشف مذكرات تاكاغي يوم ٨ أغسطس أن بعض قادة اليابان لا زالوا يفكرون بطريقة لإقحام ستالين)، وكان أيضا القتال معركةً أخيرة وإصابة خسائر فادحة خيارًا ممكنًا. ما كان لدمار هيروشيما أن يزعزع استعداد الجنود القابعين في شواطئ جزر اليابان، خسروا مدينة أخرى لكنهم مستعدون بالذخيرة وقوّتهم العسكرية لم تتقلص في العموم؛ فقصف هيروشيما إذن لم يمح خياريّ اليابان الاستراتيجيين.
بيد أن إعلان الاتحاد السوفييتي الحرب واجتياح منشوريا وجزيرة سخالين مختلف الأثر، ما إن أعلنوا الحرب لم يعد ستالين وسيطًا محتملًا، فقد صار عدوًا؛ ولذا انقضى الخيار الاستراتيجي بتحرك السوفييت. وأثر هذا على الجنود المدافعين كان حاسمًا، انتقلت معظم فصائل اليابان إلى الجزء الجنوبي من جزرها متوقعين أن هدف الأمريكان الآن هي جزيرة كيوشو أقصى الجنوب. خذ على سبيل المثال فصيل كوانغتانغ المعروف ببأسه وشأنه، اضمحل وصار صورة من سمعته بعد عودة أقوى وحداتها للدفاع عن أرض اليابان، وحين اجتاح الروس منشوريا مزقوا ما كان يومًا من نخبة الفصائل ولم يوقف كثيرًا منهم سوى نفاد الوقود. واجتاح الفصيل السوفييتي السادس عشر -١٠٠٠٠٠ أشداء- النصف الجنوبي من جزيرة سخالين، اقتضت أوامرهم مسح أي مقاومة يابانية هناك ومن ثم الاستعداد لاجتياح هوكايدو في أقصى شمال جزر اليابان في غضون ١٠ أيام إلى ١٤ يومًا. وكان عتاد القوة اليابانية المسؤولة عن دفاع هوكايدو -فصيل المنطقة الخامسة- شعبتين ولواءين، وفي مواقع محصنة شرق الجزيرة، وخطة السوفييت للهجوم هي اجتياح هوكايدو من الغرب.
لا يحتاج الوضع إلى عبقرية عسكرية حتى يُعرف أنه ولو أمكن الدفاع في معركة ضد قوة عظمى من جهة واحدة فإن الدفاع ضد قوتين عظيمتين في جهتين مختلفتين مستحيل التحقق، فأفسد اجتياح السوفييت الخيار الاستراتيجي كما أفسد الخيار الدبلوماسي قبله؛ تبخرّت خيارات اليابان جميعها بضربة واحدة. اجتياح السوفييت إذن كان حاسما استراتيجيا، فقد أقفل خياريّ اليابان، بينما قصف هيروشيما (الذي لم يقفل أيهما) لم يكن حاسمًا.
غيّر إعلان السوفييت الحربَ الوقت المحسوب للمراوغة، حيث تنبأت المخابرات اليابانية أن القوات الأمريكية لن نحتمل شهورًا من الاجتياح، أما القوات السوفييتية لن يأخذ منها سوى ١٠ أيام حتى تصل إلى اليابان؛ مقررة باجتياحها إنهاء الحرب بسبب ضيق الوقت.
علم قادة اليابان هذه الخاتمة منذ شهور، فقد قالوا في اجتماع للمجلس الأعلي في يونيو ١٩٤٥ أن دخول السوفييت إلى الحرب “سيحدد مصير الإمبراطورية”. وقال كوابي نائب رئيس الجيش في الاجتماع نفسه: “حفظ السلام المطلق في علاقتنا مع السوفييت لازمٌ لاستمرار الحرب”.
طالما تجاهل قادة اليابان قصف المدن المدمر، ولعلهم أخطأوا في هذا مع بدء القصف في شهر مارس عام ١٩٤٥، لكن تبيّن مع قصف هيروشيما أنهم كانوا محقين في اعتبارها عرضًا فرعيا بلا أهمية؛ وأعني من وجه الأثر الاستراتيجي. علم قلة في الولايات المتحدة حينما قال ترومان جملته الشهيرة مهددا بإنزال “مطر من الخراب” على المدن اليابانية إن لم تستسلم اليابان أنه لم يبق سوى القليل لتدميره، ففي وقت التهديد يوم ٧ أغسطس بقيت ١٠ مدن يزيد عدد سكانها عن ١٠٠٠٠ لم تقصف، وحين قصف ناغاساكي في ٩ أغسطس لم يبق سوى تسع مدن منها أربع في أقصى شمال هوكايدو؛ وهي عصية على القصف بسبب المسافة من جريزة تينيان مقر الطائرات الأمريكية، أما العاصمة القديمة كيوتو فقد استبعدت من قائمة وزير الحرب هنري ستمسون لأهميتها الدينية والرمزية. فرغم النبرة المخيفة لتهديد ترومان، لم تبق سوى ٤ مدن كبرى يمكن قصفها بالسلاح النووي بعد قصف ناغاساكي.
يُردُّ مدى وشمول حملة القوات الجوية الأمريكية إلى كونها اخترقت العديد من المدن التي آلت إلى اعتبارها “مدن” مقصوفة بأعداد سكان لم تتجاوز ٣٠٠٠٠ نسمة، وهذا العدد في العصر الحديث لا يتعدى سكان قرية كبيرة.
لا شك أن احتمال قصف [نووي] ثانٍ على المدن المقصوفة بالقنابل النارية قائم، إلا أن ما يقدّر بنصف كلٍ منها مدمر من قبل. أو أن تقصف الولاياتُ المتحدة مدنٍ أصغر بالقنابل النووية، وهي في العموم ست مدن (يسكنها ما بين ٣٠٠٠٠ و١٠٠٠٠٠ نسمة) مقصوفة سلفًا. وبعلمنا أن اليابان تعرضت إلى ضرر بالغ في ٦٨ مدينة ولم تكترث في أكثر الأمر، ليس مستغربًا أن قادة اليابان لم يستعظموا التهديد بقصف آخر؛ لم يكن كافٍ من وجه استراتيجي.
قصة مناسبة
لا يزال التفسير المعهود أثبت في عقول الناس حتى مع هذه الاعتراضات الثلاثة المذكورة وخصوصًا في الولايات المتحدة، ثمة مقاومة حقيقية للنظر في الحقائق، ولا غريب في هذه النتيجة، فالقبول بالتفسير المعهود لهيروشيما أيسر على النفس عند اليابان والولايات المتحدة. تأخذ الأفكار ثباتها بقربها من الحقيقة، وأحيانًا تثبت لأنها مرضية للنفوس؛ فهي تقضي حاجة للنفس مهمة، خذ على سبيل المثال تحقيق قادة اليابان منافع كثيرة من هذا التفسير المعهود داخل اليابان وخارجها.
ضع نفسك مكان قادة اليابان: قدت شعبك في حرب مدمرة، والاقتصاد مسحوق، وثمانون بالمئة من مدنك قُصفت وحُرقت، وجيشك تجرّع هزائم متتالية، والبحريّة تفككت والتجأت في الميناء، والمجاعة آتية ولا ريب. فالحرب بإيجازٍ أحلت طامة والأدهى أنك كنت تكذب على شعبك في حجم سوء الأحوال وأخبار الاستسلام ستفجعهم، فما أنت فاعل إذن؟ أن تقر بالإخفاق المهين؟ وتكتب بيانًا تقول فيه أنك أسأت التقدير أيما إساءة وكررت الأخطاء وأضررت بالشعب عظيم الضرر؟ أم أنك تفضّل لوم ابتكار علمي عظيم لم يكن في الحسبان؟ لوم الخسارة على القنبلة النووية وحده محى كل الأخطاء وسوء التدبير، فكانت القنبلة العذر الأمثل لخسارة الحرب. لا حاجة إلى تقسيم اللوم ولا إلى تحقيق في القضاء، أمكن بهذا ادّعاء قادة اليابان أنهم بذلوا ما في وسعهم؛ ولهذا فالقنبلة نفعت اليابان في دفع اللوم عنهم في عموم المسألة.
ولوم خسارة اليابان على القنبلة نفعهم حتى في ثلاثة أغراض سياسية معيّنة، أولها أنها ساهمت في الحفاظ على شرعية الإمبراطور؛ فإن كان سبب الهزيمة معجزة سلاح العدو وليس أخطاء جيش اليابان قد يستمر دعم مؤسسة الإمبراطور داخل اليابان.
وثانيها كسب التعاطف العالمي، فقد شنت اليابان الحرب بشراسة ووحشية عجيبة على الغازين، وسلوكها هذا كان ليُذم من الشعوب الأخرى. بيد أن قدرة التحول إلى شعب مظلوم وضحية -شعب ظُلم بقصف سلاح حرب مريع وعنيف- يعين على موازنة ما فعله جيش اليابان من فظائع؛ فلفْتُ الأنظار إلى القصف النووي ساعد في رؤية اليابان رؤيةً رحيمة واستبدال العضد بالعقاب الشديد.
أما آخرها فهو أن القول بهذا يسعد الأمريكان المنتصرين في اليابان، والاحتلال الأمريكي لليابان لم ينته تمامًا حتى عام ١٩٥٢؛ وكان لهم السلطة في هذه الفترة بتغيير المجتمع الياباني على ما يشتهون. وخشي كثير من مسؤولي اليابان إبان أول أيام الاحتلال نيّة الولايات المتحدة في القضاء على مؤسسة اليابان، وكانوا يخشون أمرًا آخرًا حتى؛ فقد علم كثير من أبرز مسؤولي اليابان احتمال تعرضهم لمحاكمات جرائم الحرب (كان استسلام اليابان موافقًا قيامَ محاكمات جرائم حرب لقادة ألمانيا في أوربا). وقال بهذا مرارًا المؤرخ الياباني أسادا ساداو في مقابلات ما بعد الحرب: “إن كان الأمريكان راغبين بتصديق كسب الحرب بالقنبلة فلماذا يخيب ظنّهم”؟
على أن عزوَ انتهاء الحرب إلى القنبلة النووية نفع اليابان في مشارب عدة إلا أنه نفع حتى مصالح الولايات المتحدة؛ فبهذا القول تتحسن صورة القوة العسكرية للولايات المتحدة، ويعظم الأثر الدبلوماسي لها في آسيا والعالم، ويقوي أمنها، ولم يذهب مبلغ الملياريْن دولارًا في بناء ما بُني هباءً. أما إن قيل من الجهة الأخرى أن دخول الاتحاد السوفييتي هو سبب استسلام اليابان فقد يزعم السوفييت أنهم فعلوا في أربعة أيام ما لم تفعله الولايات المتحدة في أربع سنوات، وستتحسن صورة القوة العسكرية لديهم ومعها التأثير الدبلوماسي. والتأكيد على حسم دخول السوفييت في إنهاء الحرب مع قرب الحرب الباردة يعادل مساعدة العدو وعونه.
على ما أشكل من أسئلة ذكرناها فإن الأخذ بما وقع في هيروشيما وناغاساكي جوهرًا لجل ما نفكر به في مسألة الأسلحة النووية مثير للقلق، فهذا الحدث هو ركيزة مسألة أهمية الأسلحة النووية. وفكرة أن القوانين العادية لا تصلح معها حاسمة في صقل وضعها الفريد، فهي قياس مهم للتهديد بالسلاح النووي: تهديد ترومان بإنزال “مطر من الخراب” على اليابان أوّلُ تهديد صريح بالنووي. وهو مستهل لهالة السلطة العظيمة التي تحيط بالأسلحة وتجعلها مهمة كل الأهمية في العلاقات الدولية.
ولكن ما نحن فاعلون بهذه النتائج إن كانت قصة هيروشيما المعهودة محل شك؟ هيروشيما هي الأساس، الموضع الذي منه تنطلق المزاعم والتأكيدات، ومع هذا تبدو قصتنا التي نكررها بيننا بعيدة كل البعد عن الحقائق. ما مصير رأينا في السلاح النووي إن كان أول إنجاز عظيم -معجزة استسلام اليابان فجأة- مجرد أسطورة؟
المصدر: Foreign Policy
https://foreignpolicy.com/2013/05/30/the-bomb-didnt-beat-japan-stalin-did/